المبادرة المصرية للحقوق الشخصية نجع حمادي: شهود على الفتنة

مقدمة  وملخص                                                                              - 

في يوم 6 يناير 2010، وفي حوالي الساعة 30:11 مساء، شهدت مدينة نجع حمادي بمحافظة قنا في صعيد مصر حادثاً إجرامياً حين تم إطلاق الرصاص على تجمعات من شباب الأقباط في ثلاثة مواضع مختلفة عقب دقائق من انتهاء قداس عيد الميلاد القبطي. وأسفر الهجوم الذي تم تنفيذه باستخدام سلاح آلي من سيارة مسرعة عن مقتل سبعة أشخاص من بينهم مساعد شرطة مسلم في الثامنة والعشرين من عمره، و6 أقباط تتراوح أعمارهم بين 17 و29 عاماً، فضلاً عن إصابة تسعة أقباط آخرين.


وأثناء تشييع جنازات القتلى ظهر يوم الخميس 7 يناير وحتى فجر السبت 9 يناير اندلعت موجات من الاعتداءات الطائفية التي طالت منازل وممتلكات الأقباط في نجع حمادي، وقرية بهجورة المجاورة، وعزبة تركس التابعة للقرية، حيث قامت مجموعات تحمل أسلحة بيضاء وعصياً وأوعية من البنزين بكسر أبواب المحلات التجارية وسرقتها وإشعال النيران فيها، بل وحاولوا في بعض الحالات فتح أبواب المنازل عنوة والتهجم على سكانها.


وبعد أقل من يومين على ارتكاب جريمة ليلة الميلاد، قام ثلاثة أشخاص بتسليم أنفسهم للشرطة بعد محاصرة منطقة اختبائهم، وفقاً لبيان وزارة الداخلية. وفي 16 يناير قرر النائب العام إحالة المتهمين الثلاثة إلى محكمة جنايات أمن الدولة العليا، المنشأة بموجب قانون الطوارئ، والتي ستبدأ في شهر فبراير القادم محاكمة المتهمين بارتكاب عدد من التهم تصل عقوبتها إلى الإعدام.


تسعى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية من خلال هذا التقرير إلى استجلاء الحقائق الأساسية بشأن حادث 6 يناير، والظروف المحيطة به والمؤدية إليه، والاعتداءات الطائفية التالية له والتي روعت أهالي المنطقة من الأقباط على مدى أربع ليال من العنف والنهب والتخريب. وبينما يقدم التقرير حصيلة التحقيقات الميدانية التي أجراها باحثو المبادرة المصرية في مدينة نجع حمادي والقرى المجاورة لها بعد بضعة أيام من وقوع الاعتداءات، فإن التقرير أيضاً يستند إلى الإفادات والأدلة التي تم جمعها من خلال هذا التحقيق الميداني واستكمالها عبر الجهد البحثي، ليخلص إلى بعض النتائج التي من شأنها أن تسلط الضوء على أداء أجهزة الدولة ـ وتحديداً أجهزتها الأمنية ـ قبل وبعد أحداث يناير 2010.


ومن هذا المنطلق يسعى التقرير إلى الاشتباك مع عدد من الأسئلة الضرورية لتقييم موقف الدولة من أحداث نجع حمادي. وأول هذه الأسئلة، هو عما إذا كان يمكن لأجهزة الدولة توقع اعتداءات نجع حمادي. يؤكد مسئولو الدولة أن الأجهزة الأمنية لم تكن لديها معلومات عن وقوع حادث نجع حمادي، وأنها كانت كفيلة بمنعه في حال توافر معلومات. ولكن المعلومات والشهادات والقرائن المتوافرة لدى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تدفعنا لاستنتاج أن هذا التصريح يخالف الحقيقة، وأن أجهزة الأمن كانت أمامها دلائل متواترة ومتطابقة تشير إلى أن المنطقة تغلي على نيران من التوتر الطائفي، بل وتلقى أسقف المنطقة وأقباطها ـ وفقاً لتقارير إعلامية منشورة قبل اعتداءات 6 يناير ـ رسائل تهديد ومؤشرات بأن المنطقة قد تشهد أحداث عنف في ليلة عيد الميلاد. وبالتالي فإن التقرير يطرح تساؤلات جادة حول سبب إخفاق أجهزة الأمن في التنبؤ بوقوع جرائم كان ينبغي أن تعلم بأن وقوعها مرجح في ذات الوقت والمكان اللذين وقعت فيهما تلك الجرائم.


كما يلفت التقرير إلى أن جميع إفادات شهود العيان الذين تواجدوا في مناطق إطلاق النار ليلة عيد الميلاد أشاروا إلى الوجود الأمني الهزيل أمام الكنائس في ليلة العيد، في منطقة كانت قد شهدت اعتداءات طائفية جماعية استهدفت الأقباط في نوفمبر 2009، وتتواتر فيها التهديدات باعتداءات جديدة عليهم. وإجابة هذا السؤال سترتبط بالطبع بالإجابة عن السؤال السابق. وسيبقى السؤالان دون إجابة شافية حتى يتم فتح تحقيق مستقل وشامل في الظروف المؤدية إلى جريمة ليلة عيد الميلاد.


ينتقل التقرير بعد ذلك إلى معالجة إخفاق أجهزة الدولة في حماية منازل وممتلكات الأقباط التي تعرضت للاعتداءات الجماعية والنهب والحرق من قبل جماعات من المسلمين على مدى الأيام الثلاثة التالية لحادث إطلاق النار، حيث غاب التواجد الأمني عن الشوارع والمناطق الملتهبة، والتي كانت مرشحة للانفجار في أي وقت. غير أن التقرير لا يفوته أن يتوقف عند عدد من النماذج المضيئة التي حاول فيها رجال ونساء من المسلمين الدفاع ببسالة عن جيرانهم الأقباط في وجه المعتدين.


ويتعرض الفصل الأخير من التقرير للانتهاكات التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية في الأيام التالية لحادث إطلاق النار. ففي الوقت الذي فشلت فيه أجهزة الأمن في التنبؤ باعتداءات نجع حمادي، وفي التصدي للمهاجمين أثناء تنفيذها، وفي حماية منازل وممتلكات الأقباط من النهب والإحراق والتدمير، فإنها عوضت هذا الفشل بانتهاج النمط المعهود من الانتهاكات التي دأبت على ارتكابها في أعقاب أحداث العنف الطائفي: الاعتقالات العشوائية الفردية والجماعية من الطرفين، واستعمال قانون الطوارئ، وتعذيب المحتجزين وإساءة معاملتهم، وتقييد حرية ممثلي الإعلام ونشطاء المجتمع المدني.


وينتهي التقرير بعدد من التوصيات للقيادات التنفيذية والقضائية والتشريعية، على رأسها ضرورة فتح تحقيق رسمي وشامل ومستقل، سواء من خلال مكتب النائب العام أو عبر تشكيل لجنة مستقلة خاصة وذات صلاحيات قانونية أو كليهما، من أجل إجلاء حقيقة المسئولية الفعلية أو التقصيرية عن وقوع اعتداءات يناير 2010، على أن يشمل التحقيق جميع الظروف المحيطة بهذه الاعتداءات، على الأقل منذ أحداث فرشوط في نوفمبر 2009 وحتى 10 يناير 2010. كما يوصي التقرير بمحاسبة المسئولين عن الاعتداءات الطائفية في الفترة من 6 إلى 9 يناير 2010، وكذلك المسئولين عن الاعتقالات العشوائية وحالات الاحتجاز غير القانونية، والتحقيق في التقارير التي تشير إلى تعرض محتجزين للتعذيب واستعمال القسوة داخل مقر مباحث أمن الدولة بنجع حمادي، وإحالة المسئولين من الضباط ومساعديهم إلى المحاكمة الجنائية بتهمة التعذيب

 

 

 

الفصل الأول :    

نجع حمادي وتداخل الدين والسياسة

لا يمكن فهم الأحداث التي شهدتها مدينة نجع حمادي والقرى المحيطة بها في يناير 2010 بمعزل عن التركيبة الدينية للمنطقة والتطورات التي شهدتها على مدى العقدين الماضيين ليس فقط من ناحية العلاقة بين المسلمين والمسحيين في المنطقة، وإنما أيضاً من ناحية العلاقة بين المؤسسة الدينية المسيحية والأقباط من جهة والمسئولين السياسيين وأجهزة الدولة من جهة أخرى.


يضم مركز نجع حمادي التابع لمحافظة قنا كلاً من مدينة نجع حمادي وعدد من الوحدات المحلية من أبرزها قرية بهجورة، والتي يمثل المسيحيون فيها نسبة تقترب من 40% من السكان وفقاً لمصادر كنسية. وتسيطر القبلية على قرى المركز نظراً لانتماء أغلب سكانها من المسلمين إلى قبائل العرب والهوارة والأشراف، بينما يسكن المدينة عائلات مختلفة يعمل أغلب أبنائها في الجهاز الإداري للدولة أو في المصنعين الكبيرين لإنتاج الألمونيوم والسكر. وتقدر مصادر كنسية نسبة المسيحيين في مركز نجع حمادي بنحو 20%، وترتفع النسبة إلى ما يقرب من 40% في مدينة نجع حمادي وحدها. ويتولى الرعاية الدينية لأقباط المركز الأنبا كيرلس أسقف مطرانية نجع حمادي وفرشوط وأبوتشت منذ عام 1977. وتوجد بالمدينة كنيستان هما مار يوحنا والسيدة العذراء، ومقر للمطرانية، ودير الأنبا بضابا على حدود المدينة.


وعلى الرغم من أن العلاقة بين مسيحيي مركز نجع حمادي ومسلميها تميزت في أغلب الأوقات بالتعايش المشترك، إلا أن العقدين الماضيين شهدا بعض الأحداث التي عكرت صفو هذا النمط. ووقع أسوأ هذه الأحداث في نهاية التسعينيات من القرن الماضي في خضم المواجهة بين الجماعات الإسلامية المسلحة والدولة المصرية، وهي المواجهات التي تضمنت هجمات واغتيالات شنها أعضاء هذه الجماعات واستهدفت الأقباط والسائحين ومسئولي الدولة. وكان نصيب نجع حمادي من هذه الاعتداءات حادثة إرهابية عنيفة وقعت في شهر مارس من عام 1997،  قام فيها ثلاثة من أفراد الجماعة الإسلامية بإطلاق الرصاص بطريقة عشوائية على أهالي عزبة كامل تكلا بقرية بهجورة، بعد فشلهم في إطلاق الرصاص على كنيسة الأنبا شنودة ونقطة الشرطة بالقرية بسبب كثافة الحراسة الأمنية حولهما. وقد أطلق المسلحون الرصاص على أشخاص تصادف وجودهم داخل محل ترزي قبطي قبل أن يواصلوا السير وإطلاق الرصاص على أشخاص يجلسون أمام منزلهم. وأسفرت العملية ـ طبقا لما أكدته مصادر كنسية لباحثي المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ـ عن مصرع 13 شخصاً بينهم تسعة أقباط.


أما في الأعوام القليلة الماضية، فقد تواترت مؤشرات حول تصاعد التوتر الطائفي في المنطقة على خلفية التحول الديني. وكان أبرز هذه المؤشرات بيان صدر عن مطرانية نجع حمادي في ديسمبر 2006 بتوقيع الأنبا كيرلس يدين "الممارسات غير المسئولة والتي تضر بالوحدة الوطنية وتؤجج نار الفتنة بين أبناء الوطن الواحد والمتمثلة في قيام بعض العناصر السيئة باستقطاب الشباب الذي يمر بظروف مادية صعبة واقتصادية طاحنة والتحايل عليه بالطرق الشرعية وغير الشرعية للتخلي عن عقيدته وإشهار إسلامه. وقد تكرر ذلك حتى الآن مع شابين من بهجورة ونجع حمادي حيث يقيمان في منزل احد الأشخاص في منطقة الوزيري هناك." وطالبت المطرانية  الجهات المسئولة بـ"بالتدخل الفوري لإيقاف ذلك العبث بأمن الوطن."


غير أن أهم ملامح العلاقة بين المسلمين والأقباط في الأعوام العشرة الماضية تتمثل في الدور السياسي البارز لأسقفية نجع حمادي، والمشاركة الانتخابية المرتفعة لأقباطها، والتوترات السياسية المرتبطة بتلك المشاركة وبتأثيرها في نتائج الانتخابات التشريعية. وتشير المصادر في هذا الصدد إلى أن الأنبا كيرلس أدرك أن الأقباط يمثلون كتلة تصويتية مرجحة يقدرها البعض بنحو عشرين ألف صوت لهم حق التصويت لاختيار نائبي مجلس الشعب عن دائرة نجع حمادي. وأجمعت المصادر لباحثي المبادرة المصرية للحقوق الشخصية على أن تلك الكتلة التصويتية لعبت دوراً مهماً في انتزاع أحد مقعدي الدائرة من النائب عبد الرحيم الغول في انتخابات عام 2000، بعد ما يقرب من 30 عاما احتكر فيها العضو البارز في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم تمثيل الدائرة عن مقعد العمال والفلاحين، وذلك لسوء علاقة النائب بالكنيسة التي تتهمه بالتعصب ضد الأقباط، والتراخي في تلبية مطالبهم. وفي السنوات الخمس التي غاب فيها الغول عن مجلس الشعب، توطدت العلاقة بين الأنبا كيرلس واللواء عادل لبيب محافظ قنا السابق في الفترة من 1999 وحتى 2006، وازداد تأثير ونفوذ الأسقف الذي تمكن خلال هذه الفترة من الحصول على التصاريح اللازمة لاستكمال ترميم منشآت دير الأنبا بضابا وكنيسة العذراء بمدينة نجع حمادي. كما كان المحافظ السابق يحرص على المشاركة في الاحتفالات والأنشطة الشبابية التي كانت الكنيسة تقوم بتنظيمها


واستمر هذا الدور السياسي البارز للأسقفية في الانتخابات البرلمانية التالية عام 2005، حيث قام الحزب الحاكم بترشيح عضو آخر عن مقعد العمال والفلاحين، بينما خاض عبد الرحيم الغول الانتخابات مستقلاً، ونجح في الحصول على أصوات تكفي لخوض جولة الإعادة أمام مرشح الحزب الحاكم. وتشير مصادر عديدة ومتطابقة إلى تحرشات قام بها أنصار النائب الغول ضد الأقباط في يوم انتخابات الإعادة الموافق 26 نوفمبر 2005، بهدف منعهم من الإدلاء بأصواتهم بعد أن أعلن الأسقف تأييده لمرشح الحزب الحاكم وحشد الأقباط للتصويت له. وفور إعلان نتيجة الانتخابات وفوز عبد الرحيم الغول بمقعد العمال، قام أنصار الغول بتنظيم تظاهرات حاشدة استهدفت المنازل والمحال التجارية المملوكة للأقباط وبعض الكنائس، خاصة في شوارع محمد حسني مبارك وبورسعيد والجمهورية، وقام المتظاهرون بطرق وتهشيم أبواب المحال والمنازل بالعصي والآلات الحديدية وترديد السباب والهتافات المعادية للمسيحية والأقباط وللأنبا كيرلس تحديداً. وفي قرية بهجورة قام أنصار نفس المرشح بالخروج في تجمعات ضخمة إلى المناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة للأقباط وهي مناطق أبو عسل ونجع عيسي وشارع النقراشي، حيث قاموا بتهشيم أبواب المنازل وتوجيه السباب والهتافات العدائية ضد الأقباط.


وقد أشار بيان صادر عن مطرانية نجع حمادي بتوقيع الأسقف في 10 ديسمبر 2005 إلى هذه التحرشات، حيث أدان البيان "الأحداث المؤسفة التى وقعت يوم السبت 26/11/2005 والتى استهدفت النيل من الوحدة الوطنية وزعزعة الأمن والاستقرار بالاعتداء على ممتلكات المواطنين الأقباط وإرهابهم من قبل أنصار أحد المرشحين المستقلين في الانتخابات البرلمانية (الدائرة العاشرة)، كما تستنكر المطرانية الهتافات التى ازدرت الدين المسيحي والمسيحيين ومست الرموز الدينية. وتؤكد المطرانية أن تلك الممارسات الغير مسئولة لم ولن تجدي نفعاً فى النيل من ثوابت الأمة ونسيجها المترابط." ووفقاً للمعلومات المتاحة للمبادرة المصرية، فإن أجهزة الدولة لم تقم بإجراء أي تحقيقات معلنة في التحرشات والاعتداءات الطائفية التي شهدتها تلك الانتخابات السابقة.


وفي عام 2006 تضمنت حركة تغيير المحافظين تعيين اللواء مجدي أيوب محافظاً لقنا، ليكون المحافظ القبطي الوحيد في مصر. غير أن المحافظ الجديد لم يظهر حماساً لتوثيق علاقته مع قادة الكنيسة وخاصة مع الأنبا كيرلس. وانعكس البرود في العلاقات على قرارات المحافظ الجديد الذي فضل أن يحافظ على مسافة ظاهرة بينه وبين قيادات الكنيسة
إن استرجاع هذه الأحداث ـ فضلاً عن ضرورته في فهم الخلفية السياسية-الطائفية للمنطقة ـ يمثل أهمية بالغة لأن عدداً غير قليل من الشهود الذين تحدث إليهم باحثو المبادرة المصرية رجحوا وجود علاقة بين اعتداءات عيد الميلاد وبين انتخابات مجلس الشعب المقرر إجراؤها في خريف 2010.


فقد ورد في شهادة أحد شهود العيان الذين تواجدوا في مكان إطلاق النار عقب قداس عيد الميلاد، حين استطلع باحثو المبادرة المصرية رأيه في خلفية الاعتداءات:


"أنا مقيم في محافظة أخرى، لكن عائلتي من منطقة بهجورة. وصلت بهجورة قبل العيد بيومين وسمعت أخبار عن "هدية للنصارى في ليلة العيد". وكان ماسمعته يدل على أن هناك شيء سوف يحدث لتفتيت القوة التصويتية للأقباط الذين يتبعون توجهات الأنبا كيرلس في إيبارشية نجع حمادي."1


وذكر شاهد آخر من مدينة نجع حمادي تواجد أثناء إطلاق النار أن الحادث ربما يعود إلى أن "الكنيسة دخلت فى السياسة والأنبا كيرلس معروف أنه يملك أصوات المسيحيين."2  
كما ورد في شهادة أحد ساكني قرية بهجورة من الأقباط:


"الكراهية موجودة منذ فترة طويلة وليست وليدة اليوم، خاصة أن الأقباط لهم صوت مسموع ومؤثرين في السياسة. [أحد النواب] دائماً يصرح بكراهيته للمسيحيين وعلى خلاف مع الكنيسة... لدرجة أنه كان يردد شعارات ويحرض الناس ضد النائب الآخر لأنه وافق على تجديد كنيسة العذراء ودير الأنبا بضابا في نجع حمادي."


وحين التقى باحثو المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بالأنبا كيرلس في نجع حمادي بعد أسبوع من الاعتداءات، كرر الأنبا نفس الإشارات الغامضة إلى الخلفية السياسية والانتخابية للاعتداءات، رافضاً توضيح مدلول هذه الإشارات:


"الحادث إرهابي لأن مسيحيى نجع حمادي لهم وضع اجتماعي وسياسي، والموضوع يحتمل كل الاحتمالات، من الجائز أن يكون السبب لعبة سياسة خاصة أن الانتخابات على الأبواب وأصوات المسيحيين كتلة مؤثرة."3 


ومن ناحية أخرى فإن قراءة الظروف المحيطة بانتخابات 2005 تمثل أهمية قصوى في معرفة الدور الذي يبدو أن حمام الكموني ـ المتهم الأول بارتكاب اعتداءات 6 يناير 2010 ـ قد لعبه في هذه الانتخابات التي كان يعمل فيها لصالح النائب عبد الرحيم الغول.


فقد نشرت هالة المصري، المدونة والناشطة القبطية المقيمة في قنا، والتي شاركت في مراقبة انتخابات عام 2005، مقالاً على مدونتها في أعقاب اعتداءات 2010، جاء فيه العبارة التالية:


"...لا أنسى ما قام به حمام الكموني وأعوانه يوم الانتخابات النيابية فى الدورة الماضية حينما حاول تضييق الخناق على الأقباط حتى لا يخرجوا إلى الشوارع ولا يعطو أصواتهم لمرشح الحزب الوطني الذي استبعد الغول وقتها من قائمته. وكيف قام بتجريح وخدش حياء النساء القبطيات والإتيان بأفعال يعاقب عليها القانون. وكيف وأنه بعدما ظهرت النتيجة ونجح المرشح المستقل الغول قاد تظاهرة وحملة لترويع وتأديب الأقباط فى شوارع نجع حمادي."4 


كما أن جريدة الأهرام ـ القومية ـ أشارت إلى علامات الاستفهام التي تدور حول علاقة الكموني بالنائب الغول، بل ونشرت ثلاث صور فوتوغرافية مختلفة يظهر فيها الغول في تجمعات انتخابية وإلى جواره الكموني.5ثم عادت نفس الجريدة في عدد لاحق لتنفي ما تردد من "شائعات" حول وجود أي علاقة بين الرجلين.6  


وبينما تجدر الإشارة إلى أن البيان الصادر عن مكتب النائب العام بشأن إحالة المتهمين الثلاثة بارتكاب اعتداءات يناير 2010 تضمن إشارة إلى أنه "لم تسفر التحقيقات وتحريات الشرطة عن وجود محرضين على ارتكاب تلك الوقائع"، فإن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تؤكد على الضرورة الملحة لإجراء تحقيق شامل ومستقل في الظروف التي أدت إلى ارتكاب هذه الجرائم

المصادر :

1- مقابلة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع شاهد عيان، طلب عدم ذكر اسمه، 13 يناير 2010، نجع حمادي، قنا.

2- مقابلة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع شاهد عيان، طلب عدم ذكر اسمه، 12 يناير 2010، نجع حمادي، قنا.

3- مقابلة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع الأنبا كيرلس، أسقف نجع حمادي وتوابعها، 13 يناير 2010، نجع حمادي، قنا.

4- هالة المصري، أيادي الإجرام الخفية في مجزرة الميلاد.

5- عبد الجواد علي وآخرين، "تضميد الجراح في نجع حمادي"، صحيفة الأهرام، 15 يناير 2010.

6- أحمد موسى، "النائب العام يعلن حقائق نجع حمادي"، صحيفة الأهرام، 17 يناير 2010.

 

 

 

 

.

2. أحداث فرشوط، نوفمبر 2009

 

 

بعد ساعات قليلة من وقوع اعتداءات نجع حمادي، أصدرت وزارة الداخلية بياناً مقتضباً بشأن الاعتداءات، جاءت فيه العبارة التالية: "هناك مؤشرات مبدئية لارتباط الحادث بتداعيات اتهام شاب مسيحى باغتصاب فتاة مسلمة بإحدى قرى المحافظة." 7 ولم تفصح وزارة الداخلية في أي وقت عن مصدر هذه المؤشرات المبدئية التي ظهرت قبل تحديد المشتبه بهم أو تسليمهم لأنفسهم ـ وهو ما حدث في 8 يناير 2010 ـ أو بدء تحقيقات النيابة العامة معهم


وفي البيان الصادر عن مكتب النائب العام في 16 يناير 2010 بشأن إحالة المتهمين إلى المحاكمة جاء أن التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة توصلت إلى أن الاعتداءات ارتكبتها "مجموعة من الخارجين على القانون الذين تجردوا من أية قيم أخلاقية ودينية واجتماعية بزعم تأثرهم بواقعة اغتصاب طفلة مسلمة بدائرة أحد المراكز المجاورة ومشاهدتهم للقطات مصورة لفتيات مسلمات في أوضاع مخلة وخادشة للحياء."


وبينما لم تتضح حتى الآن أي معلومات بشأن مصدر وطبيعة اللقطات المصورة التي أشار إليها بيان النائب العام، فإن الرواية الأمنية والقضائية حتى الآن تربطان بين ارتكاب الاعتداءات وبين جريمة اغتصاب لطفلة في مركز فرشوط المجاور لنجع حمادي بمحافظة قنا (والتابع كنسياً لمطرانية نجع حمادي) وقعت في شهر نوفمبر 2009. كما أن مسئولي الحزب الحاكم وغيرهم من التنفيذيين يؤكدون على وجود نفس الصلة. وقد شكك عدد من أهالي نجع حمادي من الأقباط والمسلمين في هذه الرواية الرسمية، معتبرين أنها تهدف في الأساس إلى المساواة بين فاعلي الجريمتين، وتصوير حادث نجع حمادي على أنه جريمة فردية ـ وليس اعتداءً طائفياً ـ ارتكبها مجرم مسلم في مواجهة جريمة فردية أخرى ارتكبها مجرم قبطي.


وفي حين لا تتوفر لدى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية المعلومات والأدلة الكافية لتحديد دوافع ارتكاب جريمة نجع حمادي ـ خاصة وأن محاكمة المتهمين فيها لم تبدأ حتى وقت صدور هذا التقرير ـ فمن المؤكد أن الأحداث التي شهدتها فرشوط في نوفمبر 2009 واستجابة الأجهزة الأمنية والقانونية لتلك الأحداث لعبت دوراً في تصعيد أجواء التوتر الطائفي الذي انفجر ليلة عيد الميلاد.


كما أن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ترى أن إطلاق النار الجماعي على الأقباط بهدف قتلهم لمجرد كونهم مسيحيين يجب أن يتم توصيفه والتعامل معه بوصفه اعتداءاً طائفياً في أسبابه وطبيعته، بصرف النظر عن المبرر الذي قد يسوقه مرتكبو هذه الجريمة لتبرير ارتكابها.


وتعود أحداث فرشوط إلى يوم 18 نوفمبر 2009، حين اتهمت أسرة مسلمة من قرية الشقيفي التابعة لمركز أبو تشت بمحافظة قنا شاباً مسيحياً يدعى جرجس بارومي جرجس (21 عاماً)، ويقطن بقرية الكوم الأحمر التابعة لمركز فرشوط، باغتصاب طفلتهم البالغة من العمر 12 عاماً، بعد إجبارها على الذهاب معه إلى أحد الحقول الزراعية المجاورة. وقد ألقت قوات الأمن القبض على المتهم في نفس اليوم، وتم التحقيق معه وحبسه أربعة أيام على ذمة التحقيق.


في اليوم التالي لتلقي بلاغ الأسرة المسلمة بشأن جريمة الاغتصاب شهد مركز فرشوط والقرى التابعة له، وبعض القرى التابعة لمركز أبو تشت المجاور له نذر توترات طائفية بدأت يوم الخميس 19 نوفمبر وتكثفت بحدة حتى انفجرت في الفترة ما بين 21 - 23 من الشهر ذاته.


ففي يوم 19 نوفمبر 2009، وأثناء عودة القس بنيامين نصحي، راعي كنيسة الملاك والأبناء شنودة ـ الواقعة بقرية الخوالد بمركز أبو تشت ـ إلى منزله بقرية القلاعية مستقلاً سيارته الخاصة وبصحبته أحد شمامسة الكنيسة ويدعى مرتضى جابر رزق الله، قامت مجموعة من الشباب يحملون عصياً وأسلحة بيضاء ونارية بإيقاف السيارة أمام قرية الشقيفى، التي تنتمي إليها أسرة الطفلة المسلمة. ووفقاً لرواية القس بنيامين لباحثي المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، فإن المهاجمين اعتدوا بالضرب على القس والشماس وهشموا زجاج السيارة رغم أن سيارة شرطة كانت تقف بجوار الشباب وأنه حاول الاستغاثة بها إلا أن قوات الشرطة لم تتحرك لنجدته. وأضاف القس أن الشماس تلقى بعدها العلاج بمستشفى أبو تشت من إصابة في الرأس وكدمة خلف الأذن، وأنه قام بتحرير محضر بالواقعة، وتم سحب السيارة إلى قسم الشرطة لمعاينتها وإثبات حالتها، إلا أنه قرر التنازل عن الشكوى صباح يوم 21 نوفمبر "خوفاً من البهدلة"، على حد قوله.8 


وفي يوم الجمعة الموافق 20 نوفمبر طلبت أجهزة الأمن من أفراد 15 أسرة مسيحية من قرية الكوم الأحمر ـ محل إقامة المتهم بالاغتصاب ـ مغادرة القرية فوراً خوفاً على حياتهم. وأكدت مصادر كنسية للمبادرة المصرية أن بعض أفراد هذه الأسر توجه إلى دير الأنبا بضابا بنجع حمادي للمبيت فيه، بينما لجأ آخرون للإقامة عند أقاربهم في قرى ومدن أخرى. وأشارت المصادر أن عدداً من الأسر عاد إلى القرية مع هدوء الأوضاع في بداية ديسمبر، ليس من بينهم أسرة المتهم.


وفي فجر يوم السبت 21 نوفمبر، نشبت حرائق في ثلاثة محال مملوكة لمسيحيين في مدينة فرشوط قرابة الساعة الثانية والنصف صباحاً. وقام كهنة الكنيسة ـ صباح السبت ـ بإرسال تحذيرات للمسيحيين بعدم فتح المحال التجارية والصيدليات لتخوفهم من قيام بعض المسلمين بالتحرش بهم والاعتداء على ممتلكاتهم.


وفي صباح نفس اليوم تجمع عدد كبير من المسلمين، خاصة من قبيلة الهوارة التي تنتمي إليها أسرة الطفلة المغتصبة أمام مركز الشرطة في مدينة فرشوط لمطالبة الجهات الأمنية بتسليم الشاب المسيحي لهم لقتله، وهو ما رفضته الجهات الأمنية التي أكدت أنها ما زالت في انتظار تقرير الطب الشرعي. ونتيجة للتجمهر خارج المركز، قرر قاضي المعارضات بمحكمة جنايات فرشوط تحويل التحقيقات إلى محكمة جنايات قنا، والتي حددت في وقت لاحق جلسة 17 يناير 2010 موعداً لبدء نظر القضية، وتم تأجيلها إلي جلسة 17 فبراير القادم لمناقشة المجني عليها ووالديها والأطباء الشرعيين.


 ووفقاً لروايات الشهود، فقد تزايد عدد المتجمهرين أمام مركز الشرطة يوم 21 نوفمبر ليصل إلى عدة آلاف من المسلمين من قرية الشقيفي والقرى المجاورة لها، إضافة إلى عدد كبير من طلبة المعهد الأزهري بفرشوط. ثم تحرك المتجمهرون في مجموعات قامت بالاعتداء على ممتلكات المسيحيين وتكسير الأبواب المغلقة للمحال التجارية وحرقها بعد نهب محتويتها. وقد بدأت هذه الاعتداءات في حوالي الساعة الحادية عشرة صباحاً واستمرت حتى العاشرة مساء دون توقف، حيث كانت المجموعات تنتقل من منطقة إلى أخرى. وأكد عدد من الضحايا وشهود العيان أن الأجهزة الأمنية التي وصلت بعد حوالي ساعة ونصف من بدء الاعتداءات لم تشتبك مع القائمين بها طيلة عدة ساعات. كما تلقت المبادرة المصرية صوراً ومقاطع فيديو من مطرانية نجع حمادي وبعض المواقع الإلكترونية القبطية تصور اعتداءات تمت بالرغم من تواجد بعض القوات الأمنية بالقرب من منطقة الأحداث.


وفرضت قوات الأمن سيطرتها مساء يوم السبت، بعد الاستعانة بقوات إضافية من محافظات سوهاج وأسيوط. وأفاد عدد من المصادر لباحثي المبادرة المصرية أن قوات الأمن ألقت القبض على قرابة 70 من المعتدين وإحالتهم إلى النيابة التي أمرت بتسليم 15 قاصراً منهم لذويهم وإخلاء سبيل ثلاثة وحبس 52 آخرين لمدة 15 يوم على ذمة التحقيقات، ووجهت إليهم تهم إثارة الشغب والتجمهر والحرق العمد وإتلاف منشآت خاصة. وخلال شهري ديسمبر ويناير تم إخلاء سبيل عدد من المحتجزين في دفعات متفرقة بينما لا يزال عدد غير محدد منهم رهن الاحتجاز حتى وقت صدور هذا التقرير، في غياب قرار بإحالتهم للمحاكمة


وقد قام الضحايا من مدينة فرشوط بتقديم بلاغ إلى المحامي العام بقنا، الذي أرسل فريقاً من النيابة العامة والبحث الجنائي ومجلس المدينة لمعاينة المحلات التي تضررت من الاعتداءات.


كما شهدت عدة قرى أخرى تتبع مركز فرشوط اعتداءات على ممتلكات الأقباط، تضمنت حرق واجهة صيدلية بقرية القارة في فجر الأحد 22 نوفمبر، واشتباكات بين مسلمين وأقباط في قرية العراكي في مساء نفس اليوم، بعد أن قام بعض المسلمين بإشعال النيران في أراضي زراعية يملكها قبطي. وشهدت قرية القبيبي إشعال النار في حوش لمواطن مسيحي لم يسفر عن خسائر
وانتقلت حمى الاعتداءات إلى قرية أبو شوشة التابعة لمركز أبو تشت المجاور، والتي تبعد نحو 30 كيلومتر عن قرية الشقيفي. فقد نشب حريق في صيدلية وثلاث محال تجارية مملوكة للأقباط هناك في فجر يوم 23 نوفمبر، وفقاً لإفادة القس بولس نظير، كاهن كنيسة أبو شوشة. وفى ظهر اليوم نفسه قامت مجموعات من المسلمين بحرق منازل ومحلات وممتلكات مملوكة لمسيحيين بقرية الكوم الأحمر.


وفي مقابلة تليفونية مع باحثي المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في نهاية نوفمبر2009، أكد الأنبا كيرلس أسقف نجع حمادي أنه كان قد حذر الجهات الأمنية قبل وقوع اعتداءات 21 نوفمبر، وطالبهم بتكثيف التواجد الأمني في المنطقة خشية وقوع أعمال انتقامية، خاصة في ظل وجود مؤشرات للتصاعد والانفجار. وأضاف الأسقف أن الكنيسة قامت بالاتصال باللواء مجدي أيوب محافظ قنا في أعقاب الاعتداءات لطلب دفع تعويضات للمضارين، إلا أنه رفض وأحال المسألة إلى مدير الأمن الذي لم يبد أية استجابة. وقدرت مصادر كنسية قيمة الخسائر في مركزي فرشوط وأبو تشت بما يزيد على أربعة ملايين و390 ألف جنيه، حيث تم الاعتداء على خمس صيدليات وحافلة رحلات وسيارة نقل وأكثر من خمسين متجراً ومقر جمعية قبطية. وقد حصلت المبادرة المصرية على كشف تفصيلي أعدته الكنيسة عن حجم الخسائر.


وفي الأيام التالية للاعتداءات عقدت الأجهزة الأمنية جلسات مصغرة بين العائلات في قرى مركزي فرشوط وأبو تشت للتنبيه عليهم بالتزام الهدوء وعدم الاعتداء على أرواح وممتلكات المسيحيين، وعدم الإنصات إلى أي فكر تخريبي، على حد تعبير أحد المشاركين في هذه الجلسات لباحثي المبادرة المصرية. وطلبت الأجهزة الأمنية من الكنيسة والضحايا عقد جلسة صلح موسعة ورسمية على مستوى مركز فرشوط بأكمله، وهو ما رفضته الكنيسة التي طالبت بتعويض المتضررين أولاً قبل تنظيم جلسة الصلح.


وأكدت مصادر لباحثي المبادرة المصرية خلال شهر ديسمبر 2009 على أن الأنبا كيرلس تلقى وعوداً عن طريق المقر البابوي بالقاهرة بصرف التعويضات قبل عيد الميلاد. إلا أن التعويضات لم تصرف إلا في يوم 11 يناير 2010، بعد وقوع اعتداءات نجع حمادي ليلة عيد الميلاد، حيث قامت لجنة من وزارة التنمية المحلية بصرف تعويضات للمضارين من أحداث فرشوط وأبو تشت بلغت قيمتها 335 ألف جنيه، منها 250 ألف جنيه من وزارة التنمية المحلية، و85 ألفاً من نقابة الصيادلة. وتراوحت المبالغ المستحقة ما بين 1200 جنيه حتى 30 ألفاً وفقاً لقيمة التلفيات، حيث بلغت المحال المضارة حسب تقديرات النيابة العامة 42 محلاً وصيدلية ومكتبة، وبلغ عدد المضارين 42 شخصاً.

7- المصادر : بيان أمني بشأن حادث إطلاق النار على بعض المسيحيين بمدينة نجع حمادي، وزارة الداخلية، 7 يناير 2010

8- مقابلة تليفونية للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع القس بنيامين نصحي، ديسمبر 2009

الفصل الثاني: الإشارات المبكرة..هل كان يمكن توقع اعتداءات نجع حمادي؟

في يوم 14 يناير 2010، وصل إلى نجع حمادي وفد من أعضاء مجلس الشعب لزيارة المدينة بعد الاعتداء على أقباطها وأداء واجب العزاء في ضحايا الاعتداءات. وقد عقد الوفد اجتماعاً مع اللواء عدلي فايد، مساعد وزير الداخلية للأمن العام وعدد من القيادات الأمنية وممثلي الإعلام في نادي شرطة نجع حمادي، أكد فيه مساعد الوزير أن الأجهزة الأمنية "لم تكن لديها معلومات عن وقوع حادث نجع حمادي، وأنها كانت كفيلة بمنعه من الأساس في حال توافر معلومات."9


إن المعلومات والشهادات والأدلة المتوافرة لدى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تدفعنا لاستنتاج أن هذا التصريح يخالف الحقيقة، وأن أجهزة الأمن المحلية بل والمركزية كان أمامها دلائل متواترة ومتطابقة تشير إلى أن المنطقة قد تشهد أحداث عنف في ليلة عيد الميلاد، وبالتالي فإن هذه الأجهزة فشلت في التنبؤ بوقوع جرائم سواء كانت تعلم أو كان ينبغي أن تعلم بأن وقوعها مرجح في ذات الوقت والمكان اللذين وقعت فيهما تلك الجرائم.


بعثة المبادرة المصرية للحقوق الشخصية التقت كاهناً قبطياً بمطرانية نجع حمادي ـ طلب عدم ذكر اسمه ـ أفاد بالتالي:


" الأنبا كيرلس عقد ‏اجتماعاً‏ ‏مع‏ ‏كهنة‏ ‏الإيبراشية‏ ‏يوم‏ 4 ‏يناير‏ 2010 ‏وطلب‏ ‏منهم‏ ‏أن‏ ‏يتم‏ ‏    إنهاء‏ ‏صلاة‏ ‏قداس‏ ‏العيد‏ ‏مبكرا‏ًًًً ‏لأنه يشعر بالقلق والخوف من حدوث اشتباكات أو    مشاحنات عقب خروج الكنيسة."10    

  
وقد ورد ذكر هذا الاجتماع الذي عقده الأنبا بالتحديد في عدد من الشهادات الأخرى التي جمعها باحثو المبادرة المصرية من مصادر مختلفة في كل من مدينة نجع حمادي، وبهجورة، وفرشوط، وغيرها من الكنائس التابعة للمطرانية. كما ذكر مواطن مسيحي آخر من قرية بهجورة لباحثي المبادرة المصرية أنه تلقى نفس التنبيهات من أحد الكهنة:

 

"الأنبا كيرلس أعطى تعليمات إلى الكهنة بإنهاء الصلوات مبكراً، وهم بدورهم نقلوا هذه التعليمات إلى شعب الكنيسة. وحتى في ليلة رأس السنة على سبيل المثال خرجت الكنيسة الساعة 10.30 مساء رغم أنها في المعتاد تنتهي من الصلوات بعد منتصف الليل. في ليلة العيد الكنيسة أيضاً خرجت بدري على أن يكون إفطار العيد بعد الساعة الثانية عشر كما هو مقرر طقسياً."11  

 

وهي نفس المعلومات التي أكدها شاهد آخر في إفادته لبعثة المبادرة المصرية:


"وصلت البلد قبل العيد بيومين وسمعت الشائعات، وعرفت أن بعض الأهالي قرروا الاحتفال بالعيد عند أقاربهم في قنا وسوهاج بعيداً عن المشاكل، لكن الغالبية ذهبت كالمعتاد إلى كنيسة مار يوحنا بمدينة نجع حمادي حيث يترأس الصلاة الأنبا كيرلس، ويأتي إليها كبار المسئولين المسلمين للتهنئة بالعيد. وفي الكنيسة كانت الشائعات أكثر، لكن الذي أكد لي أنها مجرد شائعات أنه رغم وقوع حادث فرشوط، ورغم انتشار شائعة أن "النصارى ستأتيهم هدية في عيد الميلاد" والتحذيرات الأمنية فإن الحياة كانت طبيعية جداً في نجع حمادي ولم يظهر أي عسكري أمام المطرانية أو الكنائس الموجودة في المدينة مما جعلني أعتقد أنها مجرد شائعات."12


ومنذ وقوع الاعتداءات مساء الأربعاء 6 يناير وحتى مساء يوم السبت 9 يناير، أجرى الأنبا كيرلس عشرات المقابلات مع وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، أكد فيها أنه تلقى تهديدات قبل العيد بأن أحداث عنف ستقع وأنها ستستهدفه شخصياً أو الأقباط بشكل عام. وقد حضر نادر شكري، الصحفي بجريدة (وطني)، لقاءً صحفياً عقده الأسقف في مقر المطرانية مع عدد من الصحفيين الذين وصلوا إلى نجع حمادي صباح يوم الجمعة 8 يناير لتغطية ردود الأفعال على الاغتيالات وأحداث العنف التالية لها. وقال نادر في إفادته للمبادرة المصرية:


"..وصلت نجع حمادي مساء الخميس. وفي صباح الجمعة بدأت وفود الصحفيين في الوصول وتحدث إليهم الأنبا كيرلس وأكد أنه كان يتوقع الأحداث، وأن الأمن قصر في توفير الحماية للكنيسة، ورفض ربط الاعتداءات بأحداث فرشوط لأن الصعايدة من عادتهم أخذ الثأر بأنفسهم وليس استئجار آخرين كما أن الكموني [المشتبه فيه وقتها] ليس متديناَ."13 


 ولعل أهم الشهادات على الإطلاق حول الأجواء التي سادت قبل وقوع الاعتداءات، وحول حقيقة كونها فاجأت أجهزة الأمن، هي شهادة باكينام عامر، الصحفية بجريدة (المصري اليوم – الطبعة الإنجليزية)، والتي وصلت إلى مدينة نجع حمادي قبل يوم من وقوع الاعتداءات، وحضرت قداس الميلاد في كنيسة مار يوحنا التي وقع إطلاق النار على مقربة منها. وقد قالت باكينام في مقابلة مع باحثي المبادرة المصرية:


"كانت نيتي أن أذهب إلى فرشوط لحضور القداس هناك والكتابة عن أجواء التوتر والخوف التي يعيش فيها الأقباط هناك بسبب أحداث العنف [في نوفمبر 2009]. ولكني عندما ذهبت لفرشوط قال لي القس أليشع، كاهن كنيسة الملاك بفرشوط، أن الأنبا كيرلس تلقى تهديدات عن أحداث عنف ليلة عيد الميلاد، وأنه إن كان سيحدث شيء فسيحدث في نجع حمادي وليس فرشوط. عندما ذهبت إلى نجع حمادي يوم 6 يناير التقيت بالأنبا كيرلس قبل القداس وأخبرني بأنه سيقدم موعد القداس لإنهائه مبكراً خوفاً من وقوع اعتداءات."14  


وقبل ساعات من وقوع الاعتداءات، أرسلت باكينام عامر من نجع حمادي إلى مكتب صحيفتها بالقاهرة موضوعاً بعنوان "ظلال العنف والتهجير تخيم على الأعياد المسيحية في صعيد مصر"، سجلت فيه مشاعر القلق والترقب التي عاشها سكان مدينة فرشوط قبل يوم من وقوع الاعتداءات في مدينة نجع حمادي المجاورة لها. وحسب تقرير باكينام فإن سيدة واحدة كانت تصلي بكنيسة فرشوط بخلاف الكاهن، وحين سألت الصحفية عن سر خلو أكبر كنيسة في فرشوط من المصلين رغم أن تعداد الأقباط في القرية يصل إلى 15 ألف نسمة، أجابها أحد سكان المدينة بأن

"المسيحيين خائفون بسبب الكلام عن [وقوع] عنف ضدهم..وأن هناك شائعات بأن المسيحيين تلقوا تهديدات من مسلمين متشددين."15   وفي نفس التقرير قال القس أليشع للصحفية "إن المسيحيين يشعرون بعدم الأمان في كل مكان الآن، ويتوقعون العنف في أي لحظة." وفي إضافة ذات دلالة حول متابعة أجهزة الأمن للتطورات، قال القس إن أجهزة الأمن تحدثت معه بشأن شائعات انتشرت بعد الاعتداءات على أملاك الأقباط بفرشوط حول كون المسيحيين يخططون لهجمات انتقامية، بما في ذلك حرق مسجد، ولكن القس نفاها.


وفي التقرير التالي لباكينام عامر ذكرت الصحفية أن بعض الأقباط الذين تحدثت إليهم في صباح يوم الأربعاء في مدينة نجع حمادي قالوا لها إنهم لن يذهبوا إلى القداس في الكنيسة "لأنهم يخشون على حياتهم"، وأضافت امرأة من فرشوط إنها ستكتفي بمشاهدة موعظة البابا شنودة على التلفزيون.16  كما ورد في التقرير أن الأنبا كيرلس قال للصحفية قبل القداس إنه قلق بشأن وقوع عنف في ليلة عيد الميلاد.


ولم يستطع باحثو المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن يتأكدوا مما إذا كان الأسقف قد أبلغ الأمن بشكل رسمي بالتهديدات التي تلقاها هو وغيره من أقباط نجع حمادي قبل وقوع الاعتداءات أم لا، خاصة وأن الأسقف تراجع منذ مساء السبت الموافق 9 يناير عن الكثير من تصريحاته التي كان قد أطلقها للإعلام، بشأن توقعه للحادث والتقصير الأمني بشأنه. وعندما سألته بعثة المبادرة المصرية عن هذه المسألة أثناء زيارة لمقر المطرانية رفض الإدلاء بتفاصيل واكتفى بالقول:


"أنا من واجبي تهدئة الأوضاع لتجنب حدوث خسائر أخرى لأن عندي شهداء ومصابين ومقبوض عليهم، وكلهم يأتون إلى الكنيسة ويطالبوني بالتدخل. اللي إيده في الميه مش زى اللي إيده في النار. نحن نطالب بالعدالة والقصاص من الجناة وأن يأخذوا العقوبة الرادعة لمنع تكرار مثل هذه الإحداث."17 


غير أن المؤكد هو أن الظروف التي أحاطت بمنطقة نجع حمادي وفرشوط في الأيام والأسابيع السابقة على وقوع جرائم ليلة عيد الميلاد كانت على درجة من الوضوح والتواتر كفيلة بلفت انتباه أجهزة الأمن على أقل تقدير. وهو ما يجعل التحقيق في عدم قدرة أجهزة الأمن على توقع تلك الجرائم والاستعداد لها واجباً ضرورياً.

المصادر : ---

9- حماده عاشور، "مساعد وزير الداخلية ينفي علم الأمن المسبق بوقوع مذبحة نجع حمادي..والغول يتهم الإعلام بتضخيم الحادث"، صحيفة الدستور، 16 يناير 2010.

10 -مقابلة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع كاهن بمطرانية نجع حمادي، طلب عدم ذكر اسمه، 13 يناير 2010، نجع حمادي، قنا.

11- مقابلة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع شاهد عيان، طلب عدم ذكر اسمه، 13 يناير 2010، نجع حمادي، قنا.

12- مقابلة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع شاهد عيان، طلب عدم ذكر اسمه، 13 يناير 2010، نجع حمادي، قنا. 13- مقابلة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع نادر شكري، 11 يناير 2010، القاهرة.

13- مقابلة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع نادر شكري، 11 يناير 2010، القاهرة

14- مقابلة تليفونية للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع باكينام عامر، 19 يناير 2010

15- Pakinam Amer, “Shadow of violence, displacement looms over Christian holidays in Upper Egypt,” Al-Masry Al-Youm, 7 January, 2010.

16-  Pakinam Amer, “Copts in wrath following Egypt’s bloodiest Christmas,” Al-Masry Al-Youm, 7 January, 2010.

17- مقابلة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع الأنبا كيرلس، أسقف نجع حمادي وتوابعها، 13 يناير 2010، نجع حمادي، قنا.

الفصل الثالث: جريمة ليلة العيد...هل كان يمكن منع اعتداءات نجع حمادي؟

في ضوء التهديدات وأجواء الحذر التي خيمت على نجع حمادي والقرى المجاورة لها، والتي تعرض لها الفصل السابق بالتفصيل، التزم كهنة كنائس نجع حمادي وتوابعها بتغيير موعد إنهاء قداس ليلة عيد الميلاد، لينتهي بعد العاشرة مساء بقليل وليس في منتصف الليل كما هو المعتاد. غير أن مغادرة أغلب الأسر لكنائس المدينة عقب انتهاء القداس، لم يمنع الجناة من تنفيذ هجومهم على من تبقى من تجمعات للشباب القبطي بجوار الكنائس.


ووفقاً للمعلومات الرسمية وإفادات شهود العيان، فقد ارتكب الجريمة ثلاثة أفراد، قالت وزارة الداخلية في بيان رسمي لها إنهم سلموا أنفسهم للشرطة في 8 يناير بعد محاصرة منطقة اختبائهم، والمتهمون هم محمد أحمد محمد حسين (وشهرته حمام الكموني)، الذي تولى قيادة السيارة وإطلاق النيران على تجمعات الأقباط، بينما اقتصر دور المتهمين الآخرين ـ قرشي أبو الحجاج محمد علي وهنداوي محمد سيد حسن ـ على مساعدته في تنفيذ الجريمة. حيث انطلقت السيارة التى يركبها الجناة في شارع بورسعيد من ناحية كورنيش النيل، ثم أطلق المتهم الأول النيران على تجمع من الشباب على مقربة من مقر مطرانية الأقباط، وبعدها واصل القيادة وأطلق النار على تجمع آخر عند تقاطع شارع بورسعيد مع شارع 30 مارس والذي تقع في بدايته كنيسة السيدة العذراء، وبعدها توجهت السيارة إلى طريق مصر- أسوان الزراعي المتاخم للمدينة، حيث أوقف المتهمون سيارة أجرة على مقربة من دير الأنبا بضابا وتم إنزال السائق المسلم ثم أطلقت النيران على ركابها.


وأسفر الهجوم عن مقتل سبعة أشخاص من بينهم مساعد شرطة مسلم كان قد أنهى خدمته في ذلك اليوم ويدعى أيمن صادق هاشم (28 عاماً)، فضلاً عن ستة من الأقباط تتراوح أعمارهم بين 17 و29 عام وهم: رفيق رفعت وليم، وأبانوب كمال ناشد، وأيمن زكريا لوقا، وبولا عاطف يسى، وبشوي فريد لبيب، ومينا حلمي سعيد. كما نت

القائمة الرئيسية

المرصد

الصفحات

تصميم وتطوير شركة الابداع فى التصميم 2013